كتبه/ مصطفى دياب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن ناقة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لما بركت في ذلك المكان التاريخي الذي صار بعد ذلك مسجدًا للنبي –صلى الله عليه وسلم-؛ سأل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الأنصار قائلاً: (أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟)، فظفر أبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- بهذا الفضل، فقال: "أَنَا يَا رَسُولَ الله، هَذِهِ دَارِي، وَهَذَا بَابِي"؛ ليفوز بهذا الشرف العظيم أبدَ الدهر.
ولقد أسرع أبو أيوب، ونقل رحلَ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ومتاعه إلى منزله المتواضع كأنه يحمل بين يديه كنوز الدنيا، ثم قال له رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (انْطَلِقْ، فَهَيِّئْ لَنَا مَقِيلاً)، فذهب أبو أيوب، وأعدَّ الطابق العلوي من منزله ليستقبل فيه صاحب المنازل العالية -صلى الله عليه وسلم-، وأتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقول في فرح وسرور: "عَلَى بَرَكَةِ الله، أَعْدَدْنَا المَقِيلَ، فَهَيَّا فَقِيلا"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّه أَرْفَقُ بِنَا أَنْ نَكُونَ فِي السُّفْلِ)، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يطرد المشقة عن أبي أيوب، ولا يحب أن يكون في الطابق العلوي حتى لا يضيِّق على أبي أيوب وأهله؛ لأن الناس تغشاه بكثرة يرحبون به ويسألونه، وربما اطلع الضيف على شيء من عورات البيت دون قصد منه.
وهنا لم يجد أبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- بُدًّا من طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فسَلَّم للأمر، وصعد هو وزوجته المباركة إلى الطابق الثاني، لكنه لم يكد يصعد ويستقر حتى أخذ يفكر هو وزوجته أنهما على سقفٍ تحته النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنهما ربما سارا فوق السقف فنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء من غباره ورماله، وما فيه من أذى أو هوام، فكان الأمر شديدًا على نفس أبي أيوب، واضطرب فؤاده، وارتبكت أركانه؛ كيف يكون سببًا في أذى يصيب الحبيب -صلى الله عليه وسلم-؟
كان يفكِّر في أن ينزل فيدعو النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الصعود للطابق العلوي، ولكن صَرَفَه عن ذلك ما بدا له من الإرهاق على وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- بسبب طول السفر ومشقته، وربما نام النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضًا فلا يُمكنه أن يوقظه، وكذلك لا يمكنه أن يستريح هذه الليلة -رضي الله عنه-، وكيف يستريح وهو يفكر في مقام الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الأسفل مع احتمال إصابته بأدنى أذى؟
فما إن أصبح حتى أخبر النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بما أهمه طوال ليلته هو وزوجته، وأنه لا يمكنهما أن يبيتا في الطابق العلوي والرسول -صلى الله عليه وسلم- في الطابق الأسفل، قد اضطرب فؤاد صاحبنا فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- في رفق وشفقة ورحمة: (هَوِّنْ عَلَيْكَ يَا أَبَا أَيُّوبَ، إِنَّهُ أَرْفَقُ بِنَا أَنْ نَكُونَ فِي السُّفْلِ؛ لِكَثْرَةِ مَنْ يَغْشَانَا مِنَ النَّاسِ)، فزال عن أبي أيوب كل همٍّ، ورضي وأذعن -رضي الله عنه-.
ما أروع هذه الطاعة والإذعان من أبي أيوب -رضي الله عنه-، يبيت منزعجًا مضطرب الفؤاد من مقامه فوق النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويتقدَّم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يرجوه أن يتحوَّل إلى أعلى، ويتكلم أبو أيوب مع زوجته، وكأن الدنيا قد انقلبت، ثم يسمع كلمات يسيرات رقيقات ملؤها الرحمة والشفقة، والتيسير من الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فتكون كالبلسم للجرح، فيخضع وينقاد بسهولة ويسر.
وما أشد تواضع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وما أجمل نظرته -صلى الله عليه وسلم- للأمور بعين اليُسر والتيسير والشفقة والرحمة، والتبسيط لا التعقيد، فتأمل قوله -صلى الله عليه وسلم-: (هَوِّنْ عَلَيْكَ) لمن أتاه مهمومًا مغمومًا، تستشعر كأنه يزيل همًّا كالجبل من فوق ظهر أبي أيوب، (هَوِّنْ عَلَيْكَ)؛ فالأمر أيسر من ذلك.
(هَوِّنْ عَلَيْكَ) مدرسة تربوية أسَّسها الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: ملؤها الحب، والرحمة والشفقة، والحكمة والبصيرة، والتيسير، ومراعاة التابعين أو التلاميذ.
(هَوِّنْ عَلَيْكَ) عاش بها النبي –صلى الله عليه وسلم- نموذجًا حيًّا فريدًا وسط أصحابه، فكانوا مثله -صلى الله عليه وسلم-، وكيف لا وقد قال الله -عز وجل-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة:١٨٥)؟! (هَوِّنْ عَلَيْكَ) منهج حياة.
واليُسر هو رفع المشقة والحرج عن العبد المكلف بأمرٍ من الأمور، وقد رغَّب الله في التيسير على العباد فقال: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) (البقرة:٢٨٠)، ووعد الله من اتقاه وأطاع أمره أن يجعل له من أمره يُسرًا، فقال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق:٤)، فتصير الأمور سهلةً لينةً.
والعبد الفطن لا ينفكُّ عن سؤال ربه التيسير في الأمور كلها قائلاً: "اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِي أَمْرِي كُلَّهُ"، وكما قال موسى -عليه السلام-: (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) (طه:٢٦)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ لا سَهْلَ إِلا مَا جَعَلْتَهُ سَهْلاً، وَأَنْتَ تَجْعَلُ الحَزَنَ -إِذَا شِئْتَ- سَهْلاً) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).
حقًّا ما أحوج الدعاة والمربِّين إلى تبسيط الأمور وتيسيرها على العباد، وعدم تعقيدها واختيار الأصعب، فمدرسة (هَوِّنْ عَلَيْكَ) لم تؤسس على اختيار الأصعب؛ بل الأيسر ما لم يكن إثمًا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ الله عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا)، ثم تلا هذه الآية: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (مريم:٦٤) (رواه الحاكم، وصححه الألباني)، وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ" (متفق عليه).
وهناك فرق كبير بين هذا وبين ترك الواجبات أو فعل الحرام بدافع التيسير على الخلق، كمن يأمر الناس بحلق اللحية لمصلحة الدعوة، أو يُجيز لهم التمثيل وسماع الموسيقى والأغاني، واقتناء التماثيل، أو يجيز التعامل بالربا للتيسير عليهم، أو يحرم المرأة من ارتداء النقاب؛ كل هذا بحجة التيسير على الناس!!
ولقد سمعنا من يُجيز للشباب فعل العادة السيئة بزعم انتشار الفتنة، وهذا الإطلاق كلام باطل، فلكلٍّ حالة فتواها، فالفتوى تختلف زمانًا ومكانًا وشخصًا، فلا يجوز إطلاق إباحة ما هو محرم بدعوى التيسير على الشباب، وكذلك لا يجوز التنازل عن الثوابت وقضايا المنهج الإسلامي: كقضية الولاء والبراء، وغيرها بدعوى التيسير ومواكبة العصر!
ولذا نقول: هناك فرق كبير بين تقديم التنازلات المخالفة الشرع وبين مبدأ التيسير، فمبدأ التيسير أصَّله الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فما خُيِّر بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعدَ الناس منه.
ومن حِرص الرسول -صلى الله عليه وسلم- على التيسير على العباد استجابته لموسى -عليه السلام- في رحاب الإسراء إذ فُرضت عليه خمسين صلاة، فقال له موسى: "إن قومك لا يطيقون ذلك، ارجع لربك فاسأله التخفيف، ومن حرصه كذلك -صلى الله عليه وسلم- على التيسير على العباد عدم أمرهم بما يشق عليهم، فقال: (لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ) (متفق عليه)، تأمل المشقَّة الحادثة إذا أُمرنا بالسواك عند كل صلاة، فقد نعجز والأمر واجب وتاركه آثم.
ومن التيسير والحرص عليه حثُّه -صلى الله عليه وسلم- على إنظار المعسر، قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ، وَمَنْ أَنْظَرَهُ بَعْدَ حِلِّهِ كَانَ لَهُ مِثْلُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
وقد اشتهرت هذه المدرسة وهذا النموذج التربوي، فتأثَّر به السلف -رضي الله عنهم-، قال الشَّعبي: "إِذَا اخْتَلَفَ عَلَيْكَ أَمْرَانِ فَإِنَّ أَيْسَرَهُمَا أَقْرَبُهُمَا إِلَى الْحَقِّ؛ لِقَوْلِهِ –تَعَالَى-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة:١٨٥)".
وقال إبراهيم النَّخعي: "إِذَا تَخَالَجَكَ أَمْرَانِ فَظُنَّ أَنَّ أَحَبَّهُمَا إِلَى الله أَيْسَرُهُمَا".
فمن اختار الأيسر -ما لم يكن إثمًا- كان متبعًا لسُنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن يسَّر أمور الناس يسَّر اللهُ له أموره.
إذن فنموذج التيسير في أساليب ووسائل التربية في حياتنا له ضابط عظيم حدده النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا"، ولا شك أننا نرجع لعلمائنا لتحديد الأيسر، ولا يكون ذلك باجتهاد شخصيٍّ؛ حتى لا تفسد الأمور، وتنتشر التجاوزات نتيجة الجهل بالأمر.
وما أحوج المربي اليوم لهذه الخبرة والحكمة التي يختار بها الأيسر لمن يربِّيهم، فلا يشق عليهم في حل مشاكلهم وتعويدهم على العبادة والأخذ بأيديهم، ويُحسن تربيتهم، ولا يقع بهم في الإثم، ولا يسلك بهم طريق التنازلات، فالوسائل الدعوية والتربوية قابلة للتغير زمانًا ومكانًا وشخصًا حسب المصلحة الشرعية، ولكن الثوابت الشرعية والمنهجية والعقائد غير قابلة للتغير مهما تعرضت للضغوط، وبقدر ما تتعنَّى تنال ما تتمنَّى، والحياة في سبيل الله أصعب من الموت في سبيل الله، والإخلاص عماد الأمر، ونسأل الله الإخلاص والثبات حتى الممات، والحمد لله رب العالمين.
www.salafvoice.comموقع صوت السلف